فصل: ثالثاً: التّعدّي في العاريّة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


تعبير

التّعريف

1 - التّعبير لغة‏:‏ التّبيين‏.‏ يقال‏:‏ عبّر عمّا في نفسه‏:‏ أي أعرب وبيّن ويقال لمن أعرب عن عييّ‏:‏ عبّر عنه‏.‏ واللّسان يعبّر عمّا في الضّمير‏:‏ أي يبيّن‏.‏

والاسم‏:‏ العبرة والعِبارة والعَبارة‏.‏ وخصّه أبو البقاء الكفويّ بتعبير الرّؤيا، وهو‏:‏ العبور من ظواهرها إلى بواطنها‏.‏ واستعمال الفقهاء له لا يخرج عن معناه اللّغويّ‏.‏

طرق التّعبير

2 - هناك أكثر من طريق للتّعبير عن الإرادة، فقد يكون بالقول، وقد يكون بالفعل، وقد يكون بالسّكوت أو الضّحك والبكاء‏.‏

والفعل‏:‏ إمّا أن يكون بالمعاطاة، أو بالكتابة، أو بالإشارة‏.‏

أوّلاً‏:‏ التّعبير بالقول

3 - الأصل في التّعبير عن الإرادة‏:‏ أن يكون بالقول، لأنّه من أوضح الدّلالات على تلك الإرادة، ولأنّ الرّضا أو عدمه أمر خفيّ قلبيّ، لا اطّلاع لنا عليه، فنيط الحكم بسبب ظاهر وهو القول، لذلك كانت الصّيغة أو الإيجاب والقبول ركنا في جميع العقود، سواء كانت تلك العقود معاوضات‏:‏ كالبيع والإجارة، أو تبرّعات‏:‏ كالهبة والإعارة، أو استيثاقات‏:‏ كالرّهن، أو ما تكون تبرّعا ابتداء ومعاوضة انتهاء‏:‏ كالقرض، أو غيرها من العقود كالشّركة والوكالة والنّكاح والطّلاق‏.‏ وللتّفصيل ينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏صيغة‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ التّعبير بالفعل

4 - تظهر صورة التّعبير بالفعل واضحة في المعاطاة، وذلك في بيع المعاطاة أو التّعاطي‏.‏ وصورته‏:‏ أن يدفع المشتري الثّمن ويأخذ المبيع من غير إيجاب ولا قبول قوليّين‏.‏ وهو موضع خلاف بين الفقهاء‏:‏

فذهب الجمهور - الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة، والمتولّي والبغويّ من الشّافعيّة - إلى صحّته وانعقاده بتلك الصّورة، لأنّ الفعل يدلّ على الرّضا عرفاً‏.‏ والمقصود من البيع إنّما هو أخذ ما في يد غيره بعوض يرضاه، فلا يشترط القول، ويكفي الفعل بالمعاطاة‏.‏

وذهب أكثر الشّافعيّة‏:‏ إلى أنّ البيع لا ينعقد بالمعاطاة، لأنّ الفعل لا يدلّ بوضعه على التّراضي، فالمقبوض بها كالمقبوض ببيع فاسد، فيطالب كلّ صاحبه بما دفع إليه إن بقي، أو ببدله إن تلف‏.‏

وخصّ بعض الفقهاء ‏(‏كابن سريج والرّويانيّ من الشّافعيّة، والكرخيّ من الحنفيّة‏)‏ جواز بيع المعاطاة بالمحقّرات، وهي ما جرت العادة فيها بالمعاطاة، كرطل خبز وحزمة بقل‏.‏

وقال الحنابلة بصحّة بيع المعاطاة، بشرط عدم تأخير القبض للطّالب في نحو‏:‏ خذ هذا بدرهم، أو عدم تأخير الإقباض للطّلب نحو‏:‏ أعطني بهذا الدّرهم خبزا لأنّه إذا اعتبر عدم التّأخير في الإيجاب والقبول اللّفظيّ، فاعتبار عدم التّأخير في المعاطاة أولى‏.‏

قال البهوتيّ‏:‏ وظاهره أنّ التّأخير في المعاطاة مبطل، ولو كان بالمجلس ولم يتشاغلا بما يقطعه لضعفها عن الصّيغة القوليّة‏.‏ واعتبر المالكيّة التّقابض في المعاطاة شرط لزوم، فمن أخذ رغيفا من شخص ودفع له ثمنه، فلا يجوز له ردّه وأخذ بدله، للشّكّ في التّماثل‏.‏ بخلاف ما لو أخذ رغيفا ولم يدفع ثمنه، فيجوز له ردّه وأخذ بدله، لعدم لزوم البيع‏.‏

وقد نصّ الحنفيّة على أنّ‏:‏ الإقالة، والإجارة - إن عُلِمتْ الأجرة - والصّرف، والهبة، والهديّة، ونحوها‏.‏ تصحّ وتنعقد بالتّعاطي، ونصّوا كذلك على أنّ القبول في العاريّة يصحّ بالفعل كالتّعاطي، وأمّا الإيجاب فلا يصحّ به‏.‏ وعند المالكيّة‏:‏ كلّ إشارة فهم منها الإيجاب والقبول لزم بها البيع وسائر العقود، ونصّوا على أنّ الشّركة تنعقد بالفعل الدّالّ عليها كما لو خلطا ماليهما وباعا‏.‏ وتمسّك الشّافعيّة بأصلهم، وهو‏:‏ عدم صحّة العقد بالمعاطاة في سائر العقود‏.‏ إلا العاريّة، فإنّها تصحّ عندهم بلفظ من أحدهما مع فعل من الآخر، ولا يكفي الفعل من الطّرفين إلا في بعض الصّور، كمن اشترى شيئاً وسلّمه له في ظرف، فالظّرف معار في الأصحّ‏.‏ واختار النّوويّ صحّة الهبة بالمعاطاة‏.‏

ونصّ الحنابلة على انعقاد الإجارة والمضاربة والإقالة والعاريّة والوكالة والهبة بالفعل كالتّعاطي، وذلك لأنّ المقصود المعنى، فجاز بكلّ ما يدلّ عليه‏.‏

ثالثاً‏:‏ التّعبير بالكتابة

5 - اتّفق الفقهاء على صحّة العقود وانعقادها بالكتابة، ويعتبر في القبول أن يكون في مجلس بلوغ الكتاب، ليقترن بالإيجاب بقدر الإمكان‏.‏

وجعل الشّافعيّة الكتابة من باب الكناية، فتنعقد بها العقود مع النّيّة‏.‏ واستثنوا من ذلك عقد النّكاح، فلا ينعقد بالكتابة عند جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة -‏.‏

وأجازه الحنفيّة في الغائب دون الحاضر، بشرط إعلام الشّهود بما في الكتاب‏.‏

واتّفق الفقهاء أيضا على وقوع الطّلاق بالكتابة، لأنّ الكتابة حروف يفهم منها الطّلاق، فأشبهت النّطق، ولأنّ الكتابة تقوم مقام قول الكاتب، بدليل أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان مأموراً بتبليغ الرّسالة، فبلّغ بالقول مرّة، وبالكتابة أخرى‏.‏

والكتابة الّتي يقع بها الطّلاق إنّما هي الكتابة المستبينة، كالكتابة على الصّحيفة والحائط والأرض، على وجه يمكن فهمه وقراءته‏.‏

وأمّا الكتابة غير المستبينة كالكتابة على الهواء والماء وشيء لا يمكن فهمه وقراءته، فلا يقع بها الطّلاق، لأنّ هذه الكتابة بمنزلة الهمس بلسانه بما لا يسمع‏.‏ واعتبر الشّافعيّة الكتابة بالطّلاق من باب الكناية، فتفتقر إلى نيّة من الكاتب، وقصر الحنفيّة النّيّة على الكتابة المستبينة غير المرسومة - أي أن لا يكون الكتاب مصوّراً ومعنوناً -‏.‏

وعند الحنابلة‏:‏ إن كتب طلاقها بالصّريح وقع وإن لم ينوه‏.‏ وإن كتبه بالكناية فهو كناية‏.‏ وعند المالكيّة‏:‏ إن كتبه عازماً على الطّلاق بكتابته فيقع بمجرّد فراغه من كتابة‏:‏ هي طالق‏.‏ ومثله‏:‏ لو كتب‏:‏ إذا جاءك كتابي فأنت طالق‏.‏ وعندهم قول ثان‏:‏ بأن يوقف الطّلاق على وصول الكتاب، وقوّاه الدّسوقيّ لتضمّن ‏"‏ إذا ‏"‏ معنى الشّرط‏.‏ وإن كتبه مستشيراً أو متردّداً فلا يقع الطّلاق، إلا إذا أخرجه عازماً، أو أخرجه ولا نيّة له فيقع الطّلاق بمجرّد إخراجه‏.‏ وأمّا إذا أخرجه - وهو كذلك - متردّداً أو مستشيراً، أو لم يخرجه، فإمّا أن يصل إليها، وإمّا أن لا يصل إليها، فإن وصل إليها حنث وإلا فلا‏.‏ وأمّا إن كتبه ولا نيّة له أصلاً حين بالكتابة فيلزمه الطّلاق، لحمله على العزم عند ابن رشد خلافاً للّخميّ‏.‏

رابعاً‏:‏ التّعبير بالإشارة

6 - اتّفق الفقهاء على أنّ إشارة الأخرس المفهمة تقوم مقام اللّفظ في سائر العقود للضّرورة، لأنّ ذلك يدلّ على ما في فؤاده، كما يدلّ عليه النّطق من النّاطق‏.‏

واختلفوا في إشارة غير الأخرس‏.‏

فذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى عدم اعتبارها في العقود‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّ إشارة النّاطق معتبرة كنطقه - قالوا - وهي أولى بالجواز من المعاطاة - لأنّها يطلق عليها أنّها كلام‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏آيَتُكَ أنْ لا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثةَ أيَّامٍ إلا رَمْزَاً‏}‏ والرّمز‏:‏ الإشارة‏.‏ وللتّفصيل انظر مصطلح ‏(‏إشارة‏)‏‏.‏

خامساً‏:‏ التّعبير بالسّكوت

7 - اعتبر الفقهاء سكوت البكر البالغة العاقلة تعبيراً عن رضاها بالنّكاح، لما روت عائشة رضي الله عنها أنّها قالت‏:‏ «يا رسول اللّه إنّ البكر تستحي قال‏:‏ رضاها صماتها» وأخرج الإمام مسلم في صحيحه‏:‏ «الأيِّم أحقّ بنفسها من وليّها، والبِكر تُسْتأمر، وإذنها سكوتها» وألحقوا بالسّكوت الضّحك والبكاء، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال‏:‏

«قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ اليتيمة تستأمر في نفسها، فإن صمتت فهو إذنها، وإن أبتْ فلا جواز عليها» ولأنّها غير ناطقة بالامتناع مع سماعها للاستئذان، فكان ذلك إذناً منها‏.‏ ولم يعتبر الحنفيّة والشّافعيّة البكاء إن كان مع الصّياح والصّوت، لأنّ ذلك يشعر بعدم الرّضا‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ إن علم من بكائها أنّه منع لم تزوّج‏.‏

ونصّ الحنفيّة على عدم اعتبار الضّحك إن كان باستهزاء، لأنّ الضّحك إنّما جعل إذنا لدلالته على الرّضا، فإذا لم يدلّ على الرّضا لم يكن إذناً‏.‏

قال ابن عابدين نقلا عن الفتح‏:‏ والمعوّل اعتبار قرائن الأحوال في البكاء والضّحك، فإن تعارضت أو أشكل احتيط‏.‏ وثمّة تفصيلات واستثناءات تفصيلها في ‏(‏النّكاح‏)‏‏.‏

تعبير الرّؤيا

انظر‏:‏ رؤيا‏.‏

تعجيز

التّعريف

1 - التّعجيز لغة‏:‏ مصدر عجّز‏.‏ يقال‏:‏ عجّزته تعجيزاً‏:‏ إذا جعلته عاجزاً، وعجّز فلان رأيَ فلان‏:‏ إذا نسبه إلى خلاف الحزم، كأنّه نسبه إلى العجز‏.‏

وهو لا يخرج في الاصطلاح الفقهيّ عن هذا المعنى، وهو‏:‏ نسبة الشّخص إلى العجز‏.‏ ولكنّ الفقهاء لم يستعملوا هذا اللّفظ إلا في حالتين‏:‏ الأولى‏:‏ تعجيز المكاتب‏.‏ والأخرى‏:‏ تعجيز القاضي أحد الخصمين عن إقامة البيّنة‏.‏ وفيما يلي بيان هاتين الحالتين إجمالاً‏:‏

أوّلاً‏:‏ تعجيز المكاتب

2 - اتّفق الفقهاء على أنّ الكتابة عقد لازم من جانب السّيّد، وهو‏:‏ أن يتعاقد السّيّد مع عبده‏.‏ أو أمته على أن يؤدّي إليه كذا من المال منجّزاً، أو مؤجّلاً، ويكون حرّاً‏.‏ فلا يملك فسخها، ولا يجوز تعجيز المكاتب قبل عجز المكاتب عن أداء ما عليه‏.‏

أمّا إن حلّ النّجم ‏(‏القسط‏)‏ فللسّيّد مطالبته بما حلّ من نجومه، لأنّه حقّ له‏.‏

فإن عجز المكاتب عنها، فهل يحقّ للسّيّد فسخ الكتابة وتعجيز المكاتب أم لا‏؟‏‏.‏

ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إلى أنّ للسّيّد أن يفسخ الكتابة بنفسه، دون الرّجوع إلى الحاكم أو السّلطان، إذا عجز المكاتب عن أداء ما عليه بعد حلول النّجم، لفعل ابن عمر رضي الله عنهما ذلك‏.‏

ويرى المالكيّة‏:‏ أنّه ليس له ذلك، إلا عن طريق الحاكم أو السّلطان‏.‏

3 - وذهب الجمهور كذلك - وهم‏:‏ الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة - إلى أنّه يجوز للمكاتب أن يعجّز نفسه‏.‏ كأن يقول‏:‏ أنا عاجز عن كتابتي، وعند ذلك يجوز للسّيّد الصّبر أو الفسخ، إمّا عن طريق الحاكم أو بنفسه‏.‏ كما أنّ للقاضي أن يعجّزه إذا طلب ذلك السّيّد أو ورثته، بعد حلول النّجم وعدم الوفاء بما كوتب عليه‏.‏

أمّا الحنابلة فيرون‏:‏ أنّه ليس للعبد أن يعجّز نفسه إذا كان مقتدراً، لأنّ عقد الكتابة عندهم لازم من الطّرفين‏.‏ والتّفاصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏كتابة‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ عجز المدّعي أو المدّعى عليه

4 - أكثر من استعمل من الفقهاء لفظ التّعجيز هم المالكيّة، حيث ذهبوا‏:‏ إلى أنّه إذا انقضت الآجال الّتي ضربها القاضي للمدّعي لإحضار بيّنته، وفترة التّلوّم، ولم يأت الشّخص المؤجّل بشيء يوجب له نَظِرَةً، عجَّزه القاضي، وأنفذ القضاء عليه، وسجّل، وقطع بذلك تبعته عن خصمه، ثمّ لا يسمع له بعد ذلك حجّة، ولا تقبل منه بيّنة إن أتى بها، سواء أكان مدّعيا أم مدّعى عليه‏.‏

وذهب الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إلى أنّ المدّعي يمهل إذا طلب مهلة لإحضار البيّنة، ويترك ما ترك، لأنّه هو الطّالب للحقّ‏.‏ أمّا المدّعى عليه فلا يمهل أكثر من ثلاثة أيّام، ثمّ يحكم بتعجيزه، ويسقط حقّه في الحلف، ثمّ يحلف المدّعي فيحكم له‏.‏

أمّا الحنفيّة فيرون‏:‏ أنّ القاضي يحكم للمدّعي على المدّعى عليه بنفس النّكول، بعد أن يكرّر عليه اليمين ثلاث مرّات‏.‏ لقوله صلى الله عليه وسلم «البيّنةُ على من ادّعى، واليمين على من أنكر»‏.‏ والتّفاصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏دعوى‏)‏‏.‏

تعجيل

التّعريف

1 - التّعجيل‏:‏ مصدر عجّل‏.‏ وهو في اللّغة‏:‏ الاستحثاث، وطلب العجلة، وهي‏:‏ السّرعة‏.‏ ويقال‏:‏ عجّلت إليه المال‏:‏ أسرعت إليه، فتعجّله‏:‏ فأخذه بسرعة وهو في الشّرع‏:‏ الإتيان بالفعل قبل الوقت المحدّد له شرعاً، كتعجيل الزّكاة، أو في أوّل الوقت، كتعجيل الفطر‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الإسراع‏:‏

2 - الإسراع‏:‏ مصدر أسرع، والسّرعة‏:‏ اسم منه، وهي نقيض البطء‏.‏

والفرق بين الإسراع والتّعجيل كما قال العسكريّ‏:‏ إنّ السّرعة التّقدّم فيما ينبغي أن يتقدّم فيه، وهي محمودة، ونقيضها مذموم، وهو‏:‏ الإبطاء‏.‏

والعجلة التّقدّم فيما لا ينبغي أن يتقدّم فيه، وهي مذمومة، ونقيضها محمود، وهو‏:‏ الأناة‏.‏ فأمّا قوله تعالى ‏{‏وَعَجِلْتُ إليكَ رَبِّ لِتَرْضَى‏}‏ فإنّ ذلك بمعنى‏:‏ أسرعت‏.‏

الحكم الإجمالي

3 - التّعجيل مشروع في مواضع‏:‏ كتعجيل تجهيز الميّت، وقضاء الدّين‏.‏

وغير مشروع في مواضع‏:‏ كتعجيل الصّلاة قبل وقتها‏.‏ والمشروع منه تارة يكون واجباً‏:‏ كتعجيل التّوبة من الذّنب‏.‏ وتارة يكون مندوباً‏:‏ كتعجيل الفطر في رمضان‏.‏

وتارة يكون مباحاً‏:‏ كتعجيل الكفّارات، وتارة يكون مكروهاً أو خلاف الأولى‏:‏ كتعجيل إخراج الزّكاة قبل الحول‏.‏ وغير المشروع‏:‏ منه ما يكون باطلاً، كتعجيل الصّلاة قبل وقتها‏.‏

أنواع التّعجيل

أوّلاً‏:‏ التّعجيل بالفعل عند وجود سببه

أ - التّعجيل بالتّوبة من الذّنب‏:‏

4 - تجب التّوبة على كلّ مكلّف على الفور عقيب الذّنب‏.‏

وقد دلّت على ذلك نصوص الكتاب والسّنّة وإجماع الأمّة‏.‏ قال اللّه تعالى ‏{‏إنَّمَا التَّوْبَةُ على اللَّهِ لِلَّذينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيهمْ‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوا إذا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيطَانِ تَذَكَّرُوا فإذا هُمْ مُبْصِرُونَ‏}‏‏.‏

ونقل القرطبيّ وغيره‏:‏ الإجماع على وجوب تعجيل التّوبة، وأنّها على الفور‏.‏

ب - التّعجيل بتجهيز الميّت‏:‏

5 - اتّفق الفقهاء على أنّه يندب الإسراع بتجهيز الميّت إذا تيقّن موته، لما ثبت «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم - لمّا عاد طلحة بن البراء رضي الله عنه - قال‏:‏ إنّي لا أرى طلحة إلا قد حدث فيه الموت، فآذنوني به، وعجّلوا، فإنّه لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله»‏.‏ والصّارف عن وجوب التّعجيل‏:‏ الاحتياط للرّوح، لاحتماله الإغماء ونحوه‏.‏ وفي الحديث «أسرعوا بالجنازة، فإن تكُ صالحةً فخيرٌ تقدّمونها إليه، وإن يكُ سوى ذلك فشرٌّ تضعونه عن رقابكم»‏.‏ ويندب تأخير من مات فجأة أو غرقاً‏.‏

ج - التّعجيل بقضاء الدّين‏:‏

6 - يجب تعجيل الوفاء بالدّين عند استحقاقه ويحرم على القادر المطل فيه‏.‏

فعن أبي هريرة رضي الله عنه‏:‏ «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ مطل الغنيّ ظلم، فإن أتبع أحدكم على مليء فليتبع» أي فإن أحيل على موسر فليقبل الحوالة‏.‏

قال ابن حجر في الفتح‏:‏ المعنى‏:‏ أنّه من الظّلم، وأطلق ذلك للمبالغة في التّنفير عن المطل، والمراد من المطل هنا‏:‏ تأخير ما استحقّ أداؤه بغير عذر‏.‏

د - التّعجيل بإعطاء أجرة الأجير‏:‏

7 - ثبت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقُه» والأمر بإعطائه قبل جفاف عرقه إنّما هو كناية عن وجوب المبادرة عقب فراغ العمل، إذا طلب، وإن لم يعرق، أو عرق وجفّ‏.‏ وذلك لأنّ أجره عمالة جسده، وقد عجّل منفعته، فإذا عجّلها استحقّ التّعجيل‏.‏ ومن شأن الباعة‏:‏ إذا سلّموا قبضوا الثّمن عند التّسليم، فهو أحقّ وأولى، إذ كان ثمن مهجته، لا ثمن سلعته، فيحرم مطله والتّسويف به مع القدرة‏.‏

هـ - التّعجيل بتزويج البكر‏:‏

8 - استحبّ بعض العلماء التّعجيل بإنكاح البكر إذا بلغت، لحديث‏:‏ «يا عليّ‏:‏ ثلاث لا تؤخّرها‏:‏ الصّلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيّم إذا وجدت لها كفؤاً»

واستثنوا ذلك من ذمّ العجلة، وأنّها من الشّيطان‏.‏

و - التّعجيل بالإفطار في رمضان‏:‏

9 - اتّفق الفقهاء‏:‏ على أنّ تعجيل الفطر من السّنّة، لقول الرّسول صلى الله عليه وسلم

«لا يزال النّاس بخير ما عجّلوا الفطر» ولحديث أبي ذرّ رضي الله عنه «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا تزال أمّتي بخير ما عجّلوا الفطر، وأخّروا السّحور»‏.‏

وإنّما يسنّ له التّعجيل‏:‏ إذا تحقّق من غروب الشّمس، وعدم الشّكّ فيه، لأنّه إذا شكّ في الغروب حرم عليه الفطر اتّفاقاً، وأجاز الحنفيّة تعجيل الفطر بغلبة الظّنّ‏.‏

ز - تعجيل الحاجّ بالنّفر من منى‏:‏

10 - يجوز للحاجّ التّعجّل في اليوم الثّاني من أيّام الرّمي، لقوله تعالى ‏{‏فَمَنْ تَعَجَّلَ في يَوْمَينِ فلا إِثْمَ عَلَيهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيهِ لِمَنْ اتَّقَى‏}‏ ولما روى عبد الرّحمن بن يعمر رضي الله عنه‏:‏ «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ أيّام منى ثلاث، فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخّر فلا إثم عليه»‏.‏

وشرط جوازه عند الجمهور - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - أن يخرج الحاجّ من منى قبل الغروب، فيسقط عنه رمي اليوم الثّالث، فإن لم يخرج حتّى غربت الشّمس لزمه المبيت بمنى، ورمى اليوم الثّالث‏.‏ وذلك لأنّ اليوم اسم للنّهار، فمن أدركه اللّيل فما تعجّل في يومين، وثبت عن عمر رضي الله عنه أنّه قال ‏"‏ من غربت عليه الشّمس وهو بمنى، فلا ينفرن، حتّى يرمي الجمار من أوسط أيّام التّشريق ‏"‏‏.‏

ولم يفرّق الشّافعيّة والحنابلة في هذا الشّرط بين المكّيّ والآفاقيّ‏.‏

وذهب المالكيّة‏:‏ إلى التّفريق بينهما، وخصّوا شرط التّعجيل بالمتعجّل من أهل مكّة، وأمّا إن كان من غيرها فلا يشترط خروجه من منى قبل الغروب من اليوم الثّاني، وإنّما يشترط نيّة الخروج قبل الغروب من اليوم الثّاني‏.‏

ولم يشترط الحنفيّة ذلك، وقالوا‏:‏ له أن ينفر بعد الغروب مع الكراهة، ما لم يطلع فجر اليوم الثّالث، وذلك لأنّه لم يدخل اليوم الآخر، فجاز له النّفر، كما قبل الغروب‏.‏

واختلف الفقهاء في أهل مكّة هل ينفرون النّفر الأوّل‏؟‏ فقيل‏:‏ ليس لهم ذلك‏.‏ فقد ثبت عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّه قال‏:‏ من شاء من النّاس كلّهم أن ينفروا في النّفر الأوّل، إلّا آل خزيمة، فلا ينفرون إلّا في النّفر الآخر‏.‏ وكان أحمد بن حنبل يقول‏:‏ لا يعجبني لمن نفر النّفر الأوّل أن يقيم بمكّة، وقال‏:‏ أهل مكّة أخفّ، وجعل أحمد معنى قول عمر ‏"‏ إلا آل خزيمة ‏"‏ أي‏:‏ أنّهم أهل الحرم، وحمله في المغني على الاستحباب، محافظة على العموم‏.‏ وكان مالك يقول في أهل مكّة من كان له عذر فله أن يتعجّل في يومين، فإن أراد التّخفيف عن نفسه ممّا هو فيه من أمر الحجّ فلا، فرأى أنّ التّعجيل لمن بعد قطره‏.‏

وقال أكثر أهل العلم‏:‏ الآية على العموم، والرّخصة لجميع النّاس، أهل مكّة وغيرهم، سواء أراد الخارج من منى المقام بمكّة، أو الشّخوص إلى بلده‏.‏

11 - واختلف الفقهاء في الأفضليّة بين التّعجيل والتّأخير، فذهب الجمهور ‏(‏الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏)‏‏:‏ إلى أنّ تأخير النّفر إلى الثّالث أفضل، للاقتداء بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ وذهب المالكيّة‏:‏ إلى أنّه لا تفضيل بين التّعجيل والتّأخير، بل هما مستويان‏.‏ ونصّ الفقهاء على كراهة التّعجيل للإمام، لأجل من يتأخّر‏.‏

وأمّا ثمرة التّعجيل فهي سقوط رمي اليوم الثّالث، ومبيت ليلته عنه‏.‏

ثانياً‏:‏ تعجيل الفعل قبل وجوبه

أ - التّعجيل بالصّلاة قبل الوقت‏:‏

12 - أجمع العلماء‏:‏ على أنّ لكلّ صلاة من الصّلوات الخمس وقتاً محدّداً، لا يجوز إخراجها عنه، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ على المُؤْمِنينَ كِتَابَاً مَوْقُوتَاً‏}‏ أي‏:‏ محتّمة مؤقّتة‏:‏ ولحديث المواقيت المشهور‏.‏

وقد رخّص الشّارع في تعجيل الصّلاة قبل وقتها في حالات، منها‏:‏

1 - جمع الحاجّ الظّهر والعصر جمع تقديم في عرفة‏.‏

ب - جواز الجمع للمسافر بين العصرين ‏"‏ الظّهر والعصر ‏"‏ والعشاءين ‏"‏ المغرب والعشاء ‏"‏ تقديماً عند جمهور العلماء، خلافاً للحنفيّة‏.‏

2 - جواز الجمع للمريض، جمع تقديم عند المالكيّة والحنابلة‏.‏

3 - جواز الجمع بين العشاءين تقديماً، لأجل المطر والثّلج والبرد عند جمهور العلماء

‏"‏ المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ‏"‏ وزاد الشّافعيّة جوازه بين العصرين أيضاً‏.‏

4 - جواز الجمع بين الصّلاتين، إذا اجتمع الطّين مع الظّلمة، عند المالكيّة، وجوّزه الحنابلة بمجرّد الوحل، في إحدى الرّوايتين، وصحّحها ابن قدامة‏.‏

5 - جواز الجمع لأجل الخوف عند الحنابلة‏.‏

6 - جواز الجمع لأجل الرّيح الشّديدة في اللّيلة المظلمة الباردة، عند الحنابلة، في أحد الوجهين، وصحّحه الآمديّ‏.‏

ب - التّعجيل بإخراج الزّكاة قبل الحول‏:‏

13 - ذهب جمهور الفقهاء‏:‏ إلى جواز تعجيل إخراج الزّكاة قبل الحول في الجملة، وذلك لأنّ «العبّاس رضي الله عنه سأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحلّ، فرخّص له في ذلك»، ولأنّه حقّ ماليّ جعل له أجل للرّفق، فجاز تعجيله قبل أجله، كالدّين‏.‏ ولأنّه - كما قال الشّافعيّة - وجب بسببين، وهما‏:‏ النّصاب، والحول‏:‏ فجاز تقديمه على أحدهما، كتقديم كفّارة اليمين على الحنث‏.‏ ومنعه ابن المنذر، وابن خزيمة من الشّافعيّة، وأشهب من المالكيّة، وقال‏:‏ لا تجزئ قبل محلّه كالصّلاة، ورواه عن مالك، ورواه كذلك ابن وهب‏.‏ قال ابن يونس‏:‏ وهو الأقرب، وغيره استحسان‏.‏

ونصّ الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة‏:‏ على أنّ تركه أفضل، خروجاً من الخلاف‏.‏

واختلف الفقهاء في المدّة الّتي يجوز تعجيل الزّكاة فيها‏:‏ فذهب الحنفيّة‏:‏ إلى جواز تعجيل الزّكاة لسنين، لوجود سبب الوجوب، وهو‏:‏ ملك النّصاب النّامي‏.‏

وقيّده الحنابلة بحولين فقط، اقتصاراً على ما ورد‏.‏ فقد روى عليّ رضي الله عنه «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم تعجّل من العبّاس رضي الله عنه صدقة سنتين» لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أمّا العبّاس فهي عليّ ومثلها معها» ولما روى أبو داود من «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم تسلّف من العبّاس صدقة عامين» وهو وجه عند الشّافعيّة، صحّحه الإسنويّ وغيره، وعزوه للنّصّ‏.‏ وذهب الشّافعيّة‏:‏ إلى عدم جواز تعجيل الزّكاة لأكثر من عام، وذلك‏:‏ لأنّ زكاة غير العام الأوّل لم ينعقد حولها، والتّعجيل قبل انعقاد الحول لا يجوز، كالتّعجيل قبل كمال النّصاب في الزّكاة العينيّة‏.‏

أمّا المالكيّة‏:‏ فلم يجيزوا تعجيل الزّكاة لأكثر من شهر قبل الحول على المعتمد، وتكره عندهم بشهر‏.‏ وفي المسألة تفصيلات تنظر في الزّكاة‏.‏

ج - تعجيل الكفّارات‏:‏

تعجّل كفّارة اليمين قبل الحنث

14 - ذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة -‏:‏ إلى جواز تعجيل كفّارة اليمين قبل الحنث، لما روى عبد الرّحمن بن سمرة رضي الله عنه «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ يا عبد الرّحمن، إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفّر عن يمينك، ثمّ ائت الّذي هو خير»‏.‏

واستثنى الشّافعيّة الصّوم من خصال الكفّارة، وقالوا بعدم جواز التّعجيل به قبل الحنث، وذلك لأنّه عبادة بدنيّة، فلا يجوز تقديمه على وقت وجوبه بغير حاجة، كالصّلاة، وصوم رمضان، ولأنّه إنّما يجوز التّكفير به عند العجز عن جميع الخصال الماليّة‏.‏ والعجز إنّما يتحقّق بعد الوجوب‏.‏ وهو رواية عند الحنابلة‏.‏

وذهب الحنفيّة‏:‏ إلى عدم جواز تعجيل كفّارة اليمين قبل الحنث، لأنّ الكفّارة لستر الجناية، ولا جناية قبل الحنث‏.‏

15 - ثمّ إنّ القائلين بجواز التّعجيل اختلفوا في أيّهما أفضل‏:‏ التّكفير قبل الحنث أم بعده‏؟‏‏.‏ فذهب المالكيّة، والشّافعيّة، وأحمد في رواية، وابن أبي موسى، وصوّبه المرداويّ من الحنابلة‏:‏ إلى أنّ تأخيرها عن الحنث أفضل، خروجاً من الخلاف‏.‏

والرّواية الأخرى عن أحمد على الصّحيح من المذهب‏:‏ أنّ التّكفير قبل الحنث وبعده في الفضيلة سواء، وذلك في غير الصّوم، لتعجيل النّفع للفقراء‏.‏

تعجيل كفّارة الظّهار

16 - اختلف الفقهاء في جواز تعجيل كفّارة الظّهار قبل العود، فذهب الحنفيّة والحنابلة إلى جواز تعجيلها، لوجود سببها، وذلك كتعجيل الزّكاة قبل الحول، وبعد كمال النّصاب‏.‏ وذهب المالكيّة‏:‏ إلى أنّها لا تجزئ قبل العود‏.‏

وذهب الشّافعيّة‏:‏ إلى جواز التّعجيل بكفّارة الظّهار قبل العود به، وذلك بالمال - وهو التّحرير والإطعام - لا بالصّوم، والمراد بالعود عندهم‏:‏ إمساك المظاهر منها مدّة يمكن للمظاهر أن يطلّقها فيها، مع القدرة على الطّلاق‏.‏ وصورة التّعجيل في كفّارة الظّهار‏:‏ أن يظاهر من مطلّقته رجعيّا، ثمّ يكفّر، ثمّ يراجعها‏.‏ وعندهم صور أخرى‏.‏

والمراد بالعود عند الحنفيّة‏:‏ إرادة العزم على الوطء‏.‏

وعند المالكيّة هو إرادة الوطء، مع استدامة العصمة، كما قاله ابن رشد‏.‏

تعجيل كفّارة القتل

17 - يجوز تعجيل كفّارة القتل بعد الجرح، وقبل الزّهوق، وتجزئ عنه، وذلك لتقدّم السّبب، كتعجيل إخراج الزّكاة قبل الحول‏.‏ واستثنى الشّافعيّة تعجيل التّكفير بالصّوم، لأنّه عبادة بدنيّة، فلا يجوز تقديمه على وقت وجوبه بغير حاجة، كالصّلاة، وصوم رمضان‏.‏

د - التّعجيل بقضاء الدّين المؤجّل‏:‏

18 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه لا يجب أداء الدّين المؤجّل قبل حلول أجله، لكن لو أدّي قبله صحّ، وسقط عن ذمّة المدين، وذلك لأنّ الأجل حقّ المدين، فله إسقاطه، ويجبر الدّائن على القبول‏.‏

هـ – التّعجيل بالحكم قبل التّبيّن‏:‏

19 – روي عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه، أنّه قال‏:‏ لا ينبغي للقاضي أن يقضي حتّى يتبيّن له الحقّ، كما يتبيّن اللّيل من النّهار فبلغ ذلك عمر بن الخطّاب رضي الله عنه فقال‏:‏ صدق‏.‏ وهذا لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «يا ابن عبّاس لا تشهد إلا على أمرٍ يضيء لك كضياء هذا الشّمس» وولاية القضاء فوق ولاية الشّهادة، لأنّ القضاء ملزم بنفسه، والشّهادة غير ملزمة بنفسها، حتّى ينضمّ إليها القضاء، فإذا أخذ هذا على الشّاهد، كان على القاضي بطريق الأولى‏.‏

قال الصّدر الشّهيد في شرح أدب القاضي‏:‏ وهذا في موضع النّصّ، وأمّا في غير موضع النّصّ فلا، لأنّه في غير موضع النّصّ يقضى بالاجتهاد، والاجتهاد ليس بدليل مقطوع به، فلا يتبيّن له به الحقّ، كما يتبيّن اللّيل من النّهار‏.‏

تعدّد

التّعريف

1 - التّعدّد في اللّغة‏:‏ الكثرة‏.‏ وهو من العدد‏:‏ أي الكمّيّة المتألّفة من الوحدات، فيختصّ التّعدّد بما زاد عن الواحد، لأنّ الواحد لا يتعدّد‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ‏.‏

حكمه التّكليفيّ

2 - يختلف حكم التّعدّد باختلاف متعلّقه‏.‏ فيكون‏:‏ جائزا في حالات، وغير جائز في حالات أخرى‏.‏

أ - تعدّد المؤذّنين‏:‏

3 - تعدّد المؤذّنين جائز لمسجد واحد، لتعدّدهم في زمن الرّسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إنّ ذلك مستحبّ، ويجوز الزّيادة عن الاثنين‏.‏

والمستحبّ أن لا يزيد عن أربعة‏.‏ وروي‏:‏ أنّ عثمان كان له أربعة مؤذّنين، وإن دعت الحاجة إلى أكثر كان مشروعا‏.‏ والتّفصيل في مصطلح‏:‏ ‏(‏أذان‏)‏‏.‏

ب - تعدّد الجماعة في مسجد واحد‏:‏

4 - ذهب الحنفيّة، والمالكيّة، والشّافعيّة‏:‏ إلى أنّه إذا صلّى إمام الحيّ، ثمّ حضرت جماعة أخرى كره أن يقيموا جماعة فيه على الأصحّ‏.‏

إلا أن يكون مسجد طريق، ولا إمام له، ولا مؤذّن فلا يكره إقامة الجماعة فيه حينئذ‏.‏

واستدلّوا بما روي عن عبد الرّحمن بن أبي بكرة رضي الله عنهما عن أبيه‏:‏ «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم خرج من بيته ليصلح بين الأنصار، فرجع وقد صلّى في المسجد بجماعة، فدخل منزل بعض أهله، فجمع أهله فصلّى بهم جماعة»‏.‏

وقالوا‏:‏ ولو لم يكره تكرار الجماعة في المسجد لصلّى فيه‏.‏ كما استدلّوا بأثر عن أنس رضي الله عنه قال‏:‏ إنّ أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كانوا إذا فاتتهم الجماعة في المسجد، صلّوا في المسجد فرادى‏.‏ قالوا‏:‏ ولأنّ التّكرار يؤدّي إلى تقليل الجماعة، لأنّ النّاس إذا علموا‏:‏ أنّهم تفوتهم الجماعة يتعجّلون، فتكثر الجماعة‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ لا يكره إعادة الجماعة في المسجد‏.‏ واستدلّوا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذّ بخمس وعشرين درجة»، وحديث أبي سعيد رضي الله عنه‏:‏ «جاء رجل وقد صلّى الرّسول صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أيّكم يتّجر على هذا‏؟‏ فقام رجل فصلّى معه» وجاء في بعض الرّوايات‏:‏ «فلمّا صلّيا قال‏:‏ وهذان جماعة» ولأنّه قادر على الجماعة، فاستحبّ له فعلها، كما لو كان المسجد في ممرّ النّاس‏.‏ والتّفصيل‏:‏ في مصطلح‏:‏ ‏(‏جماعة‏)‏ أو ‏(‏صلاة الجماعة‏)‏‏.‏

ج - تعدّد الجمعة‏:‏

5 - لا يجوز عند جمهور الفقهاء إقامة جمعتين في بلد واحد إلا لضرورة، كضيق المسجد، لأنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده لم يقيموا سوى جمعة واحدة‏.‏

وتعدّد الجمعة في البلد الواحد جائز مطلقا عند الحنفيّة، سواء أكانت هناك ضرورة أم لا، فصل بين جانبي البلد نهر أم لا، لأنّ الأثر الوارد بأنّه «لا جمعة إلا في مصر جامع» قد أطلق، ولم يشترط إلّا أن تقع في مصر ‏(‏ر‏:‏ صلاة الجمعة‏)‏‏.‏

د - تعدّد كفّارة الصّوم‏:‏

6 - لا خلاف بين الفقهاء في وجوب الكفّارة على من أفسد صوم يوم من رمضان بالجماع، وأنّها لا تتعدّد بتكرار الجماع في اليوم الواحد، كما اتّفقوا على تعدّد الكفّارة إذا تكرّر منه الإفساد بالجماع، بعد التّكفير من الأوّل‏.‏

واختلفوا فيما إذا أفسد أيّاما بالجماع قبل التّكفير من الأوّل، فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إلى تعدّد الكفّارة، لأنّ كلّ يوم عبادة برأسها، وقد تكرّر منه الإفساد فأشبه الحجين‏.‏ وعند الحنفيّة‏:‏ تكفيه كفّارة واحدة، وهو المعتمد في المذهب‏.‏

واختار بعض الحنفيّة‏:‏ أنّ هذا خاصّ بالإفساد بغير الجماع، أمّا الإفساد بالجماع فتتعدّد الكفّارة فيه لعظم الجناية‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ كفّارة‏)‏‏.‏

هـ - تعدّد الفدية بتعدّد ارتكاب المحظور في الإحرام‏:‏

7 - إذا ارتكب في حالة الإحرام جنايات توجب كلّ منها فدية، فإن كانت الجناية صيداً ففي كلّ منها جزاؤه، سواء أفعله مجتمعاً، أم متفرّقاً‏.‏ كفّر عن الأوّل، أم لم يكفّر عنه‏.‏

وهذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء‏.‏

وما عدا ذلك ففيه خلاف وتفصيل ويرجع إليه في ‏(‏فدية‏)‏ ‏(‏وإحرام‏)‏‏.‏

و - تعدّد الصّفقة‏:‏

8 - تتعدّد الصّفقة بتعدّد البائع، وتعدّد المشتري، وبتفصيل الثّمن، وباختلاف المعقود عليه‏.‏ فإن جمع بين عينين فأكثر في صفقة واحدة جاز، ويوزّع الثّمن في المثليّ‏.‏

وفي العين المشتركة بين اثنين يوزّع على الأجزاء، وفي غيرهما من المتقوّمات على الرّءوس، باعتبار القيمة، فإن بطل العقد في واحد منهما ابتداء صحّ في الآخر، بأن كان أحدهما قابلا للعقد والآخر غير قابل، ‏(‏ر‏:‏ عقد - تفريق الصّفقة‏)‏‏.‏

ز - تعدّد المرهون أو المرتهن‏:‏

9 - إذا رهن دارين له بمبلغ من الدّين، فقضى حصّة إحدى الدّارين من الدّين لم يستردّها حتّى يقضي باقي الدّين، لأنّ المرهون محبوس بكلّ الدّين‏.‏ وكذا إن رهن عيناً واحدة عند رجلين بدين عليه لكلّ واحد منهما، فقضى دين أحدهما، لأنّ العين كلّها رهن عند الدّائنين، وأضيف الرّهن إلى جميع العين في صفقة واحدة‏.‏ ر‏:‏ ‏(‏رهن‏)‏‏.‏

ح - تعدّد الشّفعاء في العقار‏:‏

10 - اختلف الفقهاء في حكم الشّفعة إذا استحقّها جمع، فقال الشّافعيّة‏:‏ يأخذون على قدر الحصص، لأنّ الشّفعة من مرافق الملك فيتقدّر بقدره‏.‏

وعند الحنفيّة‏:‏ يوزّع على عدد رءوسهم، وهو قول عند الشّافعيّة، لأنّهم استووا في سبب الاستحقاق، فيستوون في الاستحقاق‏.‏ ر‏:‏ ‏(‏شفعة ‏)‏

ط - تعدّد الوصايا‏:‏

11 - إذا أوصى بوصايا من حقوق اللّه قدّمت الفرائض منها، سواء قدّمها الموصي أم أخّرها، لأنّ الفريضة أهمّ من النّافلة، فإن تساوت وقدّم الموصي بعضها على بعض بما يفيد التّرتيب بدئ بما قدّمه الموصي‏.‏ ر‏:‏ ‏(‏وصيّة‏)‏‏.‏

ي - تعدّد الزّوجات‏:‏

12 - تعدّد الزّوجات إلى أربع مشروع ورد به القرآن الكريم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَانْكِحُوا ما طَابَ لكمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنَى وثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإنْ خِفْتُمْ ألا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أو مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ‏}‏ وفي تفصيل مشروعيّة التّعدّد وشروطه ووجوب العدل بين الزّوجات يرجع إلى ‏(‏نكاح وقسم ونفقة‏)‏‏.‏

ك - تعدّد أولياء النّكاح‏:‏

13 - إذا استوى أولياء المرأة في درجة القرابة كالإخوة والأعمام، يندب تقديم أكبرهم وأفضلهم، فإن تشاحّوا ولم يقدّموه أقرع بينهم‏.‏ فإن زوّج أحدهم قبل القرعة بإذنها، أو زوّجها غير من خرجت له القرعة صحّ‏.‏ لأنّه صدر من أهله في محلّه، هذا رأي الشّافعيّة‏.‏ ولتفصيل الموضوع وآراء الفقهاء يرجع إلى مصطلح ‏(‏نكاح‏)‏ ‏(‏ووليّ‏)‏‏.‏

ل - تعدّد الطّلاق‏:‏

14 - يملك الزّوج الحرّ على زوجته الحرّة ثلاث تطليقات، تبين بعدها الزّوجة منه بينونة كبرى، لا تحلّ له حتّى تنكح زوجا غيره يدخل بها، ثمّ يطلّقها أو يموت عنها، لقوله تعالى ‏{‏الطَّلاقُ مَرَّتَانِ‏}‏ إلى قوله ‏{‏فَإنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ له مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجَاً غَيرَه فَإنْ طَلَّقَها فَلا جُنَاحَ عَليهما أَنْ يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنَّا أنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ‏}‏‏.‏

وفي ذلك تفصيل وخلاف يرجع إليه في ‏(‏طلاق‏)‏‏.‏

م - تعدّد المجنيّ عليه، أو الجاني‏:‏

15 - إذا قتلت جماعة واحداً يُقتلون جميعاً قصاصاً، وإن تفاضلت جراحاتهم في العدد، بشرط أن تكون كلّ جراحة مؤثّرة في إزهاق الرّوح‏.‏ وإن قتل واحد جماعة يقتل قصاصاً أيضا، هذا محلّ اتّفاق بين الفقهاء‏.‏ والتّفصيل في مصطلح ‏(‏قصاص‏)‏ ‏(‏وجناية ‏)‏‏.‏

ن - تعدّد التّعزير بتعدّد الألفاظ‏:‏

16 - من سبّ رجلا بألفاظ متعدّدة من ألفاظ الشّتم الموجب للتّعزير، فقد أفتى بعض الحنفيّة - وأيّده ابن عابدين - بأنّه يعزّر لكلّ منها، لأنّ حقوق العباد لا تتداخل‏.‏

وكذا إن سبّ جماعة بلفظ واحد‏.‏ انظر مصطلح ‏(‏تعزير‏)‏‏.‏

س - تعدّد القضاة في بلد واحد‏:‏

17 - يجوز للإمام تعيين قاضيين فأكثر في بلد واحد، إلا أن يشترط اجتماعهم على الحكم في القضيّة الواحدة لما يقع بينهم من خلاف في محلّ الاجتهاد‏.‏ ر‏:‏ ‏(‏قضاء‏)‏‏.‏

ع - تعدّد الأئمّة‏:‏

18 - ذهب جمهور العلماء إلى أنّه لا يجوز تنصيب إمامين فأكثر للمسلمين في زمن واحد، وإن تباعدت أقاليمهم‏.‏ ر‏:‏ ‏(‏إمامة عظمى‏)‏‏.‏

تعدّي

التّعريف

1 - التّعدّي لغة‏:‏ الظّلم، وأصله مجاوزة الحدّ والقدر والحقّ‏.‏ يقال‏:‏ تعدّيت الحقّ واعتديته وعدوته أي‏:‏ جاوزته‏.‏ ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللّفظ عن معناه في اللّغة، فيستعمل بمعنى‏:‏ الاعتداء على حقّ الغير، وبمعنى‏:‏ انتقال الحكم إلى محلّ آخر، كتعدّي العلّة، والتّعدّي في الحرمة، وغير ذلك‏.‏

الحكم التّكليفيّ

2 - سبق أنّ التّعدّي له إطلاقان، ويطلق ويراد به‏:‏ الاعتداء على الغير، وهذا البحث محلّ تفصيله‏.‏ ويطلق ويراد به‏:‏ انتقال الحكم إلى محلّ آخر‏.‏

أمّا التّعدّي بالإطلاق الأوّل فهو بجميع أنواعه حرام‏.‏ وللتّعدّي أحكامه الخاصّة‏:‏ كالقصاص في النّفس، والأطراف، والتّعويض، والحبس وما إلى ذلك، كما سيتبيّن‏.‏

التّعدّي على الأموال

التّعدّي بالغصب والإتلاف والسّرقة والاختلاس‏:‏

3 - من تعدّى على مال غيره فغصبه، أو أتلف مالا غير مأذون في إتلافه شرعاً أو سرقه أو اختلسه - ترتّب عليه حكمان‏:‏

أحدهما أخرويّ‏.‏ وهو‏:‏ الإثم، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ‏}‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يحلّ مالُ امرئ مسلم إلا بطيب نفسه»‏.‏

والآخر دنيويّ‏:‏ وهو الحدّ أو التّعزير مع وجوب الضّمان عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «على اليد ما أخذتْ حتّى تؤدّيه» ولما روى عبد اللّه بن السّائب عن أبيه عن جدّه رضي الله عنهم‏:‏ «لا يأخذنَّ أحدكم متاع أخيه لاعباً أو جادّاً، ومن أخذ عصا أخيه فليردّها» فيجب على المتعدّي ردّ العين المغصوبة إن بقيت بيده كما هي، فإن تلفت في يده، أو تعدّى عليها فأتلفها بدون غصب وجب عليه ردّ مثلها إن كانت مثليّة، فإذا انقطع المثل أو لم تكن مثليّة وجب عليه قيمتها‏.‏

ومثل ما تقدّم‏:‏ الباغي في غير زمن القتال، حيث يضمن الأموال الّتي أتلفها أو أخذها‏.‏ وللتّفصيل انظر مصطلح‏:‏ ‏(‏غصب، إتلاف، ضمان، سرقة، اختلاس، بغاة‏)‏‏.‏

التّعدّي في العقود‏:‏

أوّلا‏:‏ التّعدّي في الوديعة

4 - الأصل في الوديعة‏:‏ أنّها أمانة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضَاً فَلْيُؤَدِّ الّذي ائتُمِنَ أَمَانَتَه‏}‏، وأنّه لا ضمان على المودع في الوديعة، لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه‏:‏ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ من أودع وديعة فلا ضمان عليه» ولأنّ المستودع يحفظها لمالكها فلو ضمنت لامتنع النّاس من الدّخول فيها، وذلك مضرّ، لما فيه من مسيس الحاجة إليها‏.‏ ويضمن الوديع في حالين‏:‏

الأوّل‏:‏ إذا فرّط في حفظ الوديعة، لأنّ المفرّط متسبّب بترك ما وجب عليه من حفظها‏.‏ الثّاني‏:‏ أن يتعدّى الوديع على الوديعة، لأنّ المتعدّي متلف لمال غيره فضمنه، كما لو أتلفه من غير إيداع‏.‏ ومن صور التّعدّي عليها‏:‏ انتفاعه بها، كأن يركب الدّابّة المودعة لغير نفعها، أو يلبس الثّوب المودع فيبلى‏.‏ ومن صور التّعدّي أيضاً‏:‏ جحودها‏.‏

ثانياً‏:‏ التّعدّي في الرّهن

5 - يكون التّعدّي في الرّهن من الرّاهن أو من المرتهن‏.‏

أ - تعدّي الرّاهن‏:‏

6 - إذا تعدّى الرّاهن على الرّهن فأتلفه أو أتلف جزءا منه، فإنّه يؤمر بدفع قيمة ما أتلفه، لتكون رهنا إلى حلول الأجل‏.‏ وأمّا تصرّفات الرّاهن الّتي تنقل ملك العين المرهونة كالبيع والهبة، فإنّها موقوفة على إجازة المرتهن أو قضاء الدّين‏.‏

ب - تعدّي المرتهن‏:‏

7 - ذهب الحنفيّة‏:‏ إلى أنّ الرّهن إن هلك بنفسه فإنّه يهلك مضمونا بالدّين، وكذلك لو استهلكه المرتهن، لأنّه لو أتلف مملوكا متقوّما بغير إذن مالكه، فيضمن مثله أو قيمته، كما لو أتلفه أجنبيّ وكان رهنا مكانه‏.‏

وفرّق المالكيّة بين ما يغاب عليه‏:‏ أي ما يمكن إخفاؤه كبعض المنقولات، وما لا يغاب عليه، كالعقار والسّفينة والحيوان، فأوجبوا الضّمان في الأوّل - دون الثّاني بشرطين‏:‏ الأوّل‏:‏ أن يكون بيده، لا أن يكون بيد أمين‏.‏

والثّاني‏:‏ أن لا تشهد بيّنة للمرتهن على التّلف أو الضّياع، بغير سببه، وغير تفريطه‏.‏ وذهب الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إلى أنّ الرّهن أمانة في يد المرتهن، وأنّه لا ضمان عليه إن هلك بيده، إلّا إذا تعدّى عليه، أو فرّط في حفظه‏.‏ وعلى هذا‏:‏ فالفقهاء متّفقون على أنّ المرتهن ضامن للرّهن بتعدّيه عليه أو تفريطه في حفظه‏.‏

ثالثاً‏:‏ التّعدّي في العاريّة

8 - اتّفق الفقهاء‏:‏ على أنّ العاريّة مضمونة بالتّعدّي والتّفريط من المستعير، لحديث سمرة بن جندب رضي الله عنه‏:‏ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه» أمّا إذا هلكت بلا تعدّ ولا تفريط، فقد اختلف الفقهاء في ذلك‏.‏

فذهب الحنفيّة والمالكيّة‏:‏ إلى أنّ العاريّة إن هلكت من غير تعدّ ولا تفريط منه فلا ضمان عليه، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ليس على المستعير غير المغلّ ضمان»، ولأنّه قبضها بإذن مالكها فكانت أمانة كالوديعة، وهو‏:‏ قول الحسن والنّخعيّ، والشّعبيّ، وعمر بن عبد العزيز، والثّوريّ‏.‏ والأوزاعيّ، وابن شبرمة‏.‏

وزاد المالكيّة في تضمين المستعير‏:‏ ما إذا لم يظهر سبب هلاك العاريّة، وكانت ممّا يغاب عليه، فإن قامت بيّنة على تلفها أو ضياعها بدون سببه فلا ضمان عليه‏.‏

وذهب الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إلى أنّ العاريّة مضمونة مطلقا، تعدّى المستعير، أو لم يتعدّ، لحديث سمرة‏:‏ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه»، وعن صفوان‏:‏ «أنّه صلى الله عليه وسلم استعار منه يوم حنين أدراعاً، فقال‏:‏ أغصباً يا محمّد‏؟‏ قال‏:‏ بل عاريّة مضمونة»‏.‏ وهو‏:‏ قول عطاء، وإسحاق، وأشهب من المالكيّة، وروي عن ابن عبّاس، وأبي هريرة رضي الله عنهم‏.‏

رابعاً‏:‏ التّعدّي في الوكالة

9 - اتّفق الفقهاء‏:‏ على أنّ الوكيل أمين، لا ضمان عليه فيما تلف في يده بغير تفريط ولا تعدّ، لأنّه نائب عن المالك في اليد والتّصرّف، فكان الهلاك في يده كالهلاك في يد المالك، فأصبح كالمودع‏.‏ ولأنّ الوكالة عقد إرفاق ومعونة، والضّمان مناف لذلك ومنفّر عنه‏.‏

أمّا إذا تعدّى الوكيل فإنّه يكون ضامناً‏.‏ وللتّفصيل انظر مصطلح ‏(‏وكالة‏)‏‏.‏

خامساً‏:‏ التّعدّي في الإجارة

10 - سبق الكلام عن التّعدّي في الإجارة في مصطلح ‏(‏إجارة‏)‏‏.‏

سادساً‏:‏ التّعدّي في المضاربة

11 - المضاربة‏:‏ عقد على الشّركة في الرّبح بمال من أحد الجانبين، وعمل من الجانب الآخر، ولا مضاربة بدونهما‏.‏ ثمّ المدفوع إلى المضارب أمانة في يده، لأنّه يتصرّف فيه بأمر مالكه، لا على وجه البدل والوثيقة، وهو وكيل فيه، فإذا ربح فهو شريك فيه، وإذا فسدت انقلبت إجارة، واستوجب العامل أجر مثله، وإذا خالف كان غاصبا لوجود التّعدّي منه على مال غيره‏.‏ وللتّفصيل انظر مصطلح‏:‏ ‏(‏قراض، شركة‏)‏‏.‏

12 - هذا وقد سبق الكلام عن التّعدّي في الصّدقة، والوصيّة، والأكل، والشّرب، في مصطلح ‏(‏إسراف‏)‏‏.‏

سابعاً‏:‏ التّعدّي على النّفس وما دونها

13 - التّعدّي على الأبدان بما يوجب قصاصا أو غيره هو‏:‏ قتل الآدميّ بغير حقّ، بأن لا يكون مرتدّا، أو زانيا محصنا، أو قاتلا لمكافئه، أو حربيّا‏.‏ ‏(‏ومثله قتل الصّائل‏)‏‏.‏ والتّعدّي على النّفس وما دونها‏:‏ يكون بالمباشرة أو بالتّسبّب، كمن حفر بئرا أو حفرة في غير ملكه فوقع فيه إنسان‏.‏ أو بالسّبب، كالإكراه على التّعدّي‏.‏

والتّعدّي بأنواعه يوجب الضّمان، لأنّ كلّ واحد منها يلحق ضررا بالغير‏.‏

أمّا القتل من غير تعدّ - وهو القتل بحقّ - فلا ضمان فيه، كرجم الزّاني‏.‏

والتّعدّي على النّفس يكون بالقتل عمدا أو شبه عمد - عند الجمهور - أو قتلا خطأ‏.‏ ويجب بالقتل العمد‏:‏ القود، أو الدّية‏.‏ ويجب في شبه العمد والخطأ‏:‏ الدّية فقط، على تفصيل ينظر في ‏(‏جناية، قتل، قصاص‏)‏‏.‏

أمّا التّعدّي على ما دون النّفس، فإن كان عمدا ففيه القصاص، أو الدّية، وإن كان خطأ ففيه الدّية‏.‏ على خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏جناية، جراح، قصاص‏)‏‏.‏

ومثل التّعدّي بإتلاف العضو‏:‏ التّعدّي بإتلاف منفعة العضو، ففيه الضّمان أيضاً‏.‏

14 - وقد سبق الكلام عن التّعدّي في العقوبات والقصاص والتّعزير في مصطلح‏:‏

‏(‏إسراف‏)‏‏.‏

ثامناً‏:‏ التّعدّي على العرض

15 - التّعدّي على الأعراض حرام، لأنّ الأعراض يجب أن تصان من الدّنس، وقد أباح الإسلام دم من اعتدى على العرض، لأنّ حفظ الأعراض من مقاصد الشّريعة، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏من قتل دون أهله فهو شهيد‏}‏، وجه الدّلالة في هذا الحديث الشّريف‏:‏ أنّه لمّا جعله شهيدا دلّ أنّ له القتل والقتال‏.‏ وأنّ الدّفاع عن العرض واجب، لأنّه لا سبيل إلى إباحته‏.‏ وسواء في ذلك بضع زوجته أو غيره‏.‏ ومثل الدّفاع عن البضع‏:‏ الدّفاع عن مقدّماته كالقبلة وغيرها‏.‏ وللتّفصيل انظر مصطلح‏:‏ ‏(‏صيال‏)‏‏.‏

تاسعاً‏:‏ تعدّي البغاة

16 - ما يتلفه البغاة - إذا تحقّقت فيهم الشّروط - من نفس أو مال، ينظر إن كان أثناء القتال فلا ضمان، وإن كان في غير قتال ضمنوا النّفس والمال، وهذا القدر هو ما عليه جمهور العلماء وللتّفصيل ينظر مصطلح‏:‏ ‏(‏بغاة‏)‏‏.‏

عاشراً‏:‏ التّعدّي في الحروب

17 - يجب مراعاة الأحكام الشّرعيّة في الحروب بين المسلمين والكفّار، فلا يجوز قتال من لم تبلغهم الدّعوة، حتّى ندعوهم إلى الإسلام، على خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏دعوة‏)‏‏.‏ ولا يجوز في الحروب قتل من لم يحمل السّلاح من الصّبيان، والمجانين، والنّساء، والشّيخ الكبير، والرّاهب، والزّمن، والأعمى - بلا خلاف بين الفقهاء - إلا إذا اشتركوا في القتال، أو كانوا ذا رأي وتدبير ومكايد في الحرب، أو أعانوا الكفّار بوجه من الوجوه، كما لا يجوز الاعتداء على الأسرى، بل يجب الإحسان إليهم‏.‏

وللتّفصيل ينظر‏:‏ ‏(‏جهاد، جزية، أسرى‏)‏‏.‏

التّعدّي بالإطلاق الثّاني بمعنى الانتقال

أ - تعدّي العلّة‏:‏

العلّة‏:‏ هي المعنى الّذي شرع الحكم عنده تحصيلا للمصلحة‏.‏

18 - وهي‏:‏ إمّا أن تكون متعدّية، أو قاصرة وتسمّى ‏(‏ ناقصة‏)‏‏.‏

فالمتعدّية‏:‏ هي الّتي يثبت وجودها في الأصل والفروع، أي‏:‏ أنّها تتعدّى من محلّ النّصّ إلى غيره، كعلّة الإسكار‏.‏

والقاصرة‏:‏ هي الّتي لا تتعدّى محلّ الأصل، كالرَّمَلِ في الطّواف، في الأشواط الثّلاثة الأولى، لإظهار الجلد والقوّة للمشركين‏.‏ وقد اتّفق الأصوليّون‏:‏ على أنّ التّعليل بالعلّة المتعدّية صحيح، لأنّ القياس لا يتمّ إلا بعلّة متعدّية إلى الفرع، ليلحق بالأصل‏.‏

واختلفوا في التّعليل بالعلل القاصرة‏.‏ ومحلّ تفصيل ذلك الملحق الأصوليّ‏.‏

ب - التّعدّي بالسّراية‏:‏

19 - ومثاله‏:‏ إذا أوقد شخص ناراً في أرضه أو في ملكه، أو في موات حجره، أو فيما يستحقّ الانتفاع به، فطارت شرارة إلى دار جاره فأحرقتها، فإن كان الإيقاد بطريقة من شأنها ألّا تنتقل النّار إلى ملك الغير - فإنّه لا يضمن، وإلا فإنّه يضمن لتعدّيه، سواء كان إيقاد النّار، والرّيح عاصف، أم باستعمال موادّ تنتشر معها النّار أو غير ذلك‏.‏

وللتّفصيل انظر ‏(‏ضمان، إحراق‏)‏‏.‏

آثار التّعدّي

20 - سبق أنّ التّعدّي يكون على المال، وعلى النّفس وما دونها، وعلى العرض، وللتّعدّي بأنواعه آثار نجملها فيما يلي‏:‏

- 1 - الضّمان‏:‏ وذلك فيما يخصّ الأموال بالغصب والإتلاف، وما سوى ذلك، أو فيما يخصّ القتل بأنواعه، إذا صولح في عمده على مال، أو عفا أحد الأولياء عن القصاص - ومثل ذلك الجناية على ما دون النّفس‏.‏ وللتّفصيل ينظر كلّ في بابه‏.‏

- 2 - القصاص‏:‏ ويكون في العمد من قتل أو قطع عضو أو إتلافه ممّا فيه القصاص، وينظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏قتل، قصاص‏)‏‏.‏

- 3 - الحدّ‏:‏ وهو أثر من آثار التّعدّي في السّرقة، والزّنى، والقذف، وما إلى ذلك، وينظر كلّ في مصطلحه‏.‏

- 4 - التّعزير‏:‏ وهو حقّ الإمام يعاقب به الجناة ويكون التّعزير‏:‏ بالحبس أو بالجلد أو بما يراه الحاكم مناسبا‏.‏ انظر مصطلح‏:‏ ‏(‏تعزير‏)‏‏.‏

- 5 - المنع من الميراث‏:‏ وذلك كقتل الوارث مورّثه، على خلاف بين الفقهاء في العمد وغيره‏.‏ انظر مصطلح‏:‏ ‏(‏إرث‏)‏‏.‏